الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم
وقرأ أبو حيان بالفتح.وفي هذه القراءة وجهان: أحدهما: أن الجملة بدل مما كانت تعبد.والثاني أن التقدير: لأنها كانت تعبد، فسقط حرف التعليل.{قِيلَ لَهَا ادخلي الصرح}.قال أبو عبيدة: الصرح: القصر.وقال الزجاج: الصرح: الصحن.يقال: هذه صرحة الدار وقاعتها.قال ابن قتيبة: الصرح: بلاط اتخذ لها من قوارير، وجعل تحته ماء وسمك.وحكى أبو عبيد في الغريب أن الصرح كل بناء عالٍ مرتفع، وأن الممرّد: الطويل {فَلَمَّا رَأَتْهُ حَسِبَتْهُ لُجَّةً وَكَشَفَتْ عَن سَاقَيْهَا} أي فلما رأت الصرح بين يديها حسبت أنه لجة، واللجة: معظم الماء، فلذلك كشفت عن ساقيها لتخوض الماء، فلما فعلت ذلك {قَالَ} سليمان: {إِنَّهُ صَرْحٌ مُّمَرَّدٌ مّن قَوارِيرَ} الممرّد: المحكوك المملس، ومنه الأمرد، وتمرّد الرجل إذا لم تخرج لحيته، قاله الفراء.ومنه الشجرة المرداء: التي لا ورق لها.والممرّد أيضًا: المطوّل، ومنه قيل: للحصن ما رد، ومنه قول الشاعر:
أي الدروع الواسعة الطويلة، فلما سمعت بلقيس ذلك أذعنت، واستسلمت، و{قَالَتْ رَبّ إِنّي ظَلَمْتُ نَفْسِى} أي بما كنت عليه من عبادة غيرك، وقيل: بالظنّ الذي توهمته في سليمان؛ لأنها توهمت أنه أراد تغريقها في اللجة، والأوّل أولى {وَأَسْلَمْتُ مَعَ سليمان} متابعة له داخلة في دينه {للَّهِ رَبّ العالمين} التفتت من الخطاب إلى الغيبة، قيل: لإظهار معرفتها بالله، والأولى أنها التفتت لما في هذا الاسم الشريف من الدلالة على جميع الأسماء، ولكونه علمًا للذات.وقد أخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله: {نَكّرُواْ لَهَا عَرْشَهَا} قال: زيد فيه ونقص {نَنظُرْ أَتَهْتَدِي} قال: لننظر إلى عقلها فوجدت ثابتة العقل.وأخرج الفريابي وابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن مجاهد في قوله: {وَأُوتِينَا العلم مِن قَبْلِهَا} قال: من قول سليمان.وأخرج ابن أبي حاتم عن زهير بن محمد نحوه.وأخرج ابن المنذر عن ابن عباس في قوله: {فَلَمَّا رَأَتْهُ حَسِبَتْهُ لُجَّةً} قال: بحرًا.وأخرج ابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم عنه في أثر طويل؛ أن سليمان تزوّجها بعد ذلك.قال أبو بكر بن أبي شيبة: ما أحسنه من حديث.قال ابن كثير في تفسيره بعد حكايته لقول أبي بكر بن أبي شيبة: بل هو منكر جدًا، ولعله من أوهام عطاء بن السائب على ابن عباس، والله أعلم.والأقرب في مثل هذه السياقات أنها متلقاة عن أهل الكتاب بما يوجد في صحفهم كروايات كعب ووهب سامحهما الله فيما نقلا إلى هذه الأمة من بني إسرائيل من الأوابد والغرائب والعجائب مما كان ومما لم يكن ومما حرّف وبدّل ونسخ. انتهى.وكلامه هذا هو شعبة مما قد كررناه في هذا التفسير، ونبهنا عليه في عدّة مواضع، وكنت أظنّ أنه لم ينبّه على ذلك غيري.فالحمد لله على الموافقة لمثل هذا الحافظ المنصف.وأخرج البخاري في تاريخه، والعقيلي عن أبي موسى الأشعري قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أوّل من صنعت له الحمامات سليمان» وروي عنه مرفوعًا من طريق أخرى رواها الطبراني، وابن عديّ في الكامل، والبيهقي في الشعب بلفظ: «أوّل من دخل الحمام سليمان فلما وجد حرّه قال: أوّه من عذاب الله». اهـ. .قال القاسمي: {قَالَ نَكِّرُوا لَهَا عَرْشَهَا} أي: اجعلوه [في المطبوع: اجعلوا] متنكرًا متغيرًا عن هيئته وشكله كما يتنكر الرجل للناس: {نَنْظُرْ أَتَهْتَدِي أَمْ تَكُونُ مِنَ الَّذِينَ لا يَهْتَدُونَ} أي: لمعرفته: {فَلَمَّا جَاءَتْ قِيلَ أَهَكَذَا عَرْشُكِ قَالَتْ كَأَنَّهُ هُوَ} قال المهايميّ: لم تقل: هو هو خوفًا من التكذيب، مع نوع من التغيير. ولا لا خوفًا من التجهيل.وقال الزمخشري: لم تقل: هو هو ولا ليس به وذلك من رجاحة عقلها حيث لم تقطع في المحتم. أي: فَأتت بكأن الدالة على غلبة الظن.قال الشهاب: وهذا إشارة إلى أن كأن ليس المراد بها هنا التشبيه بل الشك وهو مشهور فيها.وقد أبدى صاحب الانتصاف فرقًا بين كأن وهكذا في التشبيه. وعبارته: وفي قولها: كأنه هو وعدولها عن مطابقة الجواب للسؤال بأن تقول: هكذا هو نكتة حسنة. ولعل قائلًا يقول: كلتا العبارتين تشبيه. إذ كان التشبيه فيهما جميعًا، وإن كانت في إحداهما داخلة على اسم الإشارة، وفي الأخرى داخلة على المضمر، وكلاهما أعني: اسم الإشارة والمضمر واقع على الذات المشبهة. وحينئذ تستوي العبارتان في المعنى. ويفضل قولها: هكذا هو بمطابقته للسؤال. فلابد في اختيار: {كَأَنَّهُ هُوَ} من حكمة. فنقول: حكمته، والله أعلم، أن: {كَأَنَّهُ هُوَ} عبارة من قرب عنده الشبه حتى شكك نفسه في التغاير بين الأمرين. فكاد يقول: هو هو وتلك حال بلقيس. وأما هكذا هو فعبارة جازم بتغاير الأمرين، حاكم بوقوع الشبه بينهما لا غير. فلهذا عدلت إلى العبارة المذكورة في التلاوة، لمطابقتها لحالها، والله أعلم. انتهى.وقوله تعالى: {وَأُوتِينَا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِهَا وَكُنَّا مُسْلِمِينَ} هذا من تمام كلام سليمان عليه السلام، شكرًا لله على فضلهم عليها، وسبقهم إلى العلم بالله وبالإسلام. أي: وأوتينا نحن العلم بالله وبقدرته، وبصحة ما جاء من عنده، قبل علمها الذي أومأ إليه قولها: {كأنه هو} والجملة عطف على مقدر اقتضاه المقام المقتضى، للإفاضة في وصفها برجاحة الرأي في الهداية للإسلام. والتقدير: أصابت في جوابها وقد رزقت الإسلام، وعلمت قدرة الله. وأوتينا العلم. إلخ. وقيل إنه من كلام بلقيس، موصولًا بقولها: {كأنه هو}، لا من كلام سليمان، كأنها ظنت أنه أراد بذلك اختبار عقلها وإظهار معجزة لها، فقالت: أوتينا العلم. إلخ. أي: لا حاجة إلى الاختبار لأني آمنت قبل. وهذا يدل على كمال عقلها.أو المعنى: علمنا إتيانك بالعرش قبل الرؤية، أو هذه الحالة بالقرائن أو الأخبار.قال ابن كثير: ويؤيد الأول، أي: أنه من كلام سليمان، أنها إنما أظهرت الإسلام بعد دخولها إلى الصرح، كما سيأتي، والله أعلم. وقوله تعالى: {وَصَدَّهَا} أي: وكان صدها عن الهداية: {مَا كَانَتْ تَعْبُدُ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنَّهَا كَانَتْ مِنْ قَوْمٍ كَافِرِينَ قِيلَ لَهَا ادْخُلِي الصَّرْحَ} أي: القصر، أو صحن الدار وكان سليمان عليه السلام اتخذ قصرًا بديعًا من زجاج، فأراد أن يريها منه عظمة ملكه وسلطانه، ومقدار ما آثره الله به: {فَلَمَّا رَأَتْهُ} أي: صحنه: {حَسِبَتْهُ لُجَّةً} أي: ماء عظيمًا: {وَكَشَفَتْ} أي: للخوض فيه: {عَنْ سَاقَيْهَا قَالَ إِنَّهُ صَرْحٌ مُمَرَّدٌ} أي: مملّس: {مِنْ قَوَارِيرَ} أي: من الزجاج: {قَالَتْ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي} أي: بكفرها السالف وعبادتها وقومها الشمس: {وَأَسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمَانَ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} أي: متابعة له في دينه وعبادته لله وحده لا شريك له.تنبيهات:الأول: روى كثير من المفسرين ههنا أقاصيص لم تصحّ سندًا ولا مخبرًا. وما هذا سبيله، فلا يسوغ نقله وروايته.قال الحافظ ابن كثير، بعد أن ساق ما رواه ابن أبي شيبة عن عطاء مستحسنًا له، ما مثاله: قلت: بل هو منكر غريب جدًا. ولعله من أوهام عطاء بن السائب على ابن عباس، والله أعلم.ثم قال: والأقرب في مثل هذه السياقات أنها متلقاة عن أهل الكتاب، مما وجد في صحفهم. كروايات كعب ووهب، سامحهما الله تعالى، فيما نقلاه إلى هذه الأمة من أخبار بني إسرائيل، من الأوابد والغرائب والعجائب. مما كان ومما لم يكن. ومما حرف وبدل ونسخ. وقد أغنانا الله سبحانه عن ذلك بما هو أصح منه وأنفع وأوضح وأبلغ، ولله الحمد والمنة.الثاني: أشير في التوراة في الفصل الرابع من سفر الملوك الثالث إلى تفصيل نبأ سليمان عليه السلام وعظمة ملكه وسلطانه. ومما جاء فيه أن سليمان كان متسلطًا على جميع الممالك من نهر الفرات إلى أرض فلسطين وإلى تخم مصر. وإن ملوك الأطراف كانوا يحملون له الهدايا خاضعين له كل أيام حياته أي: أنها تؤدّي له الجزية، وإن كان محصورًا في فلسطين. وأن الله تعالى آتاه حكمة وفهمًا ذكيًا جدًا، وسعة صدر. ففاقت حكمته حكمة جميع أهل المشرق وأهل مصر. وقال ثلاثة آلاف مثل. وتكلم. في الشجر، من الأرز الذي على لبنان إلى الزوفى التي تخرج في الحائط. وتكلم في البهائم والطير والزحافات والسمك. وأما صرحه وبيته عليه السلام، فقد جاء وصفه في الفصل الخامس من السفر المتقدم. وأنه أكمل بناءه في ثلاث عشرة سنة. وأنه بنى جازَرَ وبيت حورون السفلى وبعلت وتدمر في أرض البرية. وجاء في الفصل العاشر من هذا السفر أيضًا قصة ملكة سبأ ومقدمها من اليمن على سليمان لتخبر حكمته وعظمة ملكه، ودهشتها مما رأته وتحققته، وإيمانها بربه تعالى. ثم إعطاؤه إياها بغيتها. ثم انصرافها إلى أرضها.وقد ذكرنا غير مرة أن القرآن الكريم لا يسوق أنباء ما تقدم سوق مؤرخ، بل يقصها موجزة ليتحقق أنه مصداق ما بين يديه، ومهيمن عليه، ولينبه على أن القصد منها موضع العبرة والحكمة. ومثار التبصر والفطنة.الثالث: مما استنبط من آيات هذه القصة الجليلة، أن في قوله تعالى: {فَتَبَسَّمَ ضَاحِكًا مِنْ قَوْلِهَا} أنه لا بأس بالتبسم والضحك عن التعجب وغيره. وفي قوله تعالى: {وَتَفَقَّدَ الطَّيْرَ} استحباب تفقد الملك أحوال رعيته. وأخذ منه بعضهم تفقد الإخوان، فأنشد:وأن في قوله تعالى: {لَأُعَذِّبَنَّهُ عَذَابًا شَدِيدًا} الآية، دليلًا على أن العذاب على قدر الذنب، لا على قدر الجسد. وعلى جواز تأديب الحيوانات والبهائم بالضرب عند تقصيرها في المشي وإسراعها ونحو ذلك. وأن في قوله تعالى: {قَالَ أَحَطْتُ بِمَا لَمْ تُحِطْ بِهِ} أن الصغير يقول للكبير والتابع للمتبوع: عندي من العلم ما ليس عندك، إذا تحقق ذلك. وأن في قوله تعالى: {قَالَ سَنَنْظُرُ أَصَدَقْتَ أَمْ كُنْتَ مِنَ الْكَاذِبِينَ} قبول الوالي عذر رعيته، ودرءه العقوبة عنهم، وامتحان صدقهم فيما اعتذروا به. وأن في قوله تعالى: {اذْهَبْ بِكِتَابِي هَذَا فَأَلْقِهْ إِلَيْهِمْ} إرسال الطير بالكتب. وأن في قوله تعالى: {كِتَابٌ كَرِيمٌ} استحباب ختم الكتب، لقول السّدّي: كريم بمعنى مختوم. وأن في قوله تعالى: {قَالَتْ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ أَفْتُونِي فِي أَمْرِي} المشاورة والاستعانة بالآراء في الأمور المهمة. وأن في قوله تعالى: {أَتُمِدُّونَنِ بِمَالٍ} الآية، استحباب رد هدايا المشركين. كذا في الإكليل بزيادة. اهـ. .قال ابن عاشور: {قَالَ نَكِّرُوا لَهَا عَرْشَهَا نَنْظُرْ أَتَهْتَدِي أَمْ تَكُونُ مِنَ الَّذِينَ لَا يَهْتَدُونَ (41)}.هذا من جملة المحاورة التي جرت بين سليمان عليه السلام وبين ملئه، ولذلك لم يعطف لأنه جرى على طريقة المقاولة والمحاورة.والتنكير: التغيير للحالة.قال جميل:أراد: تنكرت حالة معاشرتها بسبب تغيير الواشين، بأن يغير بعض أوصافه، قالوا: أراد مفاجأتها واختبار مظنتها.والمأمور بالتنكير أهل المقدرة على ذلك من ملئه.و{من الذين لا يهتدون} أبلغ في انتفاء الاهتداء من: لا تهتدي، كما تقدم في نظائره غير مرة.{فَلَمَّا جَاءَتْ قِيلَ أَهَكَذَا عَرْشُكِ قَالَتْ كَأَنَّهُ هُوَ وَأُوتِينَا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِهَا وَكُنَّا مُسْلِمِينَ (42)}.{يَهْتَدُونَ فَلَمَّا جَاءَتْ قِيلَ أَهَكَذَا عَرْشُكِ قَالَتْ كَأَنَّهُ هُوَ وَأُوتِينَا العلم مِن قَبْلِهَا}.دل قوله: {لما جاءت} أنّ الملكة لما بلغها ما أجاب به سليمان رسلها أزمعت الحضور بنفسها لدى سليمان داخلة تحت نفوذ مملكته، وأنها تجهزت للسفر إلى أورشليم بما يليق بمثلها.
|